الخلفيات النظرية و السيكولوجية لدروس التعبير الشفوي بالمدرسة الابتدائية

  • بادئ الموضوع بادئ الموضوع جمال
  • تاريخ البدء تاريخ البدء

جمال

Admin
📬
755
0
👍
90
🏆
28
إن تحليل البناء المنهجي لدرس التعبير الشفهي بالمدرسة الابتدائية، يكشف لنا كيف أن منهجية هذا المكون تقدم بناء متماسكا تتشكل مواده الأساسية من مجموعة من المفاهيم التي تنتمي إلى نظريات يطبعها الاختلاف، مما يمكن القول معه إن منهجية درس التعبير الشفهي استطاعت إلى حد كبير أن تجمع و تؤلف بين ما لا يمكن جمعه ، من حيث:

أـ أن هناك رؤيتين متساكنتين تتحكمان في بناء درس التعبير و هيكلته، و هما الرؤية التواصلية التي تعطي الأسبقية للبعد الوظيفي التواصلي للغة، و الرؤية البنيوية الممزوجة بقواعد النحو العربي و المفهوم التقليدي للقاعدة النحوية و الصرفية، و التي ترى أن تعلم اللغة لا يتم إلا عبر ضبط القواعد سواء أكان ذلك ضمنيا أو بشكل صريح.

ب ـ أن درس التعبير حاول أن يدمج في بنائه المنهجي بين تصورين لتعلم اللغة: التصور الآلي كما جاء عند المدرسة السلوكية (و أهم روادها سكينر) و التصور الإبداعي لدى المدرسة البنيوية التكوينية (و أهم روادها بياجي).

1ـ الرؤية التواصلية و الرؤية البنيوية في دروس التعبير:
تنطلق الرؤية التواصلية من أن تعلم اللغة بشكل عام و ممارسة التعبير الشفوي بشكل خاص يجب أن يمر في إطار توصلي، أي أن تعلم اللغة يمر عبر التواصل و الكلام مع الآخرين داخل الفصل و مع الأقران، إلا أن هذا التواصل لا يتم بشكل فوضوي أو عشوائي، بل يجب تنظيمه و تأطيره وفق مواقف يشكل منطلقا لها نص من النصوص الذي يروج رصيدا لغويا وظيفيا يمكن المتعلم من تعلم النسق اللغوي الفصيح و استضمار بنياته الأساسية.

أما الرؤية البنيوية فتنطلق من أن امتلاك القواعد النحوية هو الشرط الأساسي لتعلم اللغة و التعبير بها شفويا و كتابيا، و ذلك من خلال الترديد الآلي للجمل المتضمنة لتلك البنيات. إن إحساس المتعلم بما يثيره النص من قضايا، و تشخيصه لعناصر المواقف عن طريق التقمص، و ترويجه ـ ضمنيا ـ للقواعد الأسلوبية و التركيبية و الصرفية عن طريق الاستعمال، هو ما تراه هذه الرؤية كفيلا بتحريك آليات تعلم اللغة عن طريق التعبير.

و عند تدقيقنا في البناء المنهجي لحصص التعبير، نجد أن التساكن و التكامل بين الرؤية التواصلية و البنيوية يغطي جميع الحصص طوال الأسابيع الثلاثة من الوحدة، على الرغم من هيمنة هذه الرؤية أو تلك على حصة بعينها و يمكن توضيح ذلك كما يلي:

ـ حصة التقديم: تغلب عليها الرؤية التواصلية، و ذلك بتركيزها على الرصيد اللغوي و الأشخاص و الأحداث و الحوار.
ـ حصة التثبيت: تهيمن فيها الرؤية البنيوية، حيث تركز أنشطة هذه الحصة على تثبيت البنيات الأساسية التي يتضمنها النص، و ذلك عن طريق النسج على منوال بنيات النص الأسلوبية و التركيبية و الصرفية.
ـ حصة الاستثمار: تغلب عليها أيضا الرؤية البنيوية عن طريق التمارين الشفوية التي تتوخي استثمار مكتسبات الحصتين السابقتين، مع حضور الرؤية التواصلية في إحدى عمليات هذه الحصة (توظيف المعجم).
ـ حصة التقويم و الدعم: تتساكن فيها الرؤيتان معا، فالبعد التواصلي حاضر من خلال اعتماد تقنيات تفسح المجال أمام المتعلم ليتعلم اللغة لممارسة مجموعة من الأنشطة تستهدف دفعه إلى استعمال مخزونه اللغوي و التحكم فيه عبر مواقف خارجة عن سلطة الدرس، كالقيام بلعبة أو إنشاد أو تسلية. و البعد البنيوي بدوره حاضر من خلال التركيز على تثبيت مختلف البنيات اللغوية.

2ـ الآلية السلوكية (المدرسة السلوكية) في دروس التعبير:
تمثل المدرسة السلوكية نموذجا لنظريات الارتباط التي تقول بأن عملية التعلم تتلخص في عقد و تقوية الروابط بين " المثيرات و الاستجابات ". و هذا الربط في تسلسل تعاقبي قائم على المران و التدريب و التعزيز، هو ما يحول هذه الاستجابات إلى عادات، و وفق مبدأ التعميم، ينتقل أثر المثيرات إلى مواقف مشابهة له. و الملاحظ أن الربط بين المثير و الاستجابة و انتقال التعلم، يتم بشكل آلي.
ترتكز المدرسة السلوكية إذن على مجموعة من المفاهيم نوردها كالتالي:

أ ـ التعلم تعاقب سلوكي: أي أن التعلم عبارة عن مجموعة متتالية من الإجراءات التي يقوم بها المتعلم، و التي يمكن تحديد كل واحدة منها بالنتيجة المعززة، أي الحصول على المكافأة التي تشكل فرصة مناسبة للشروع في سلسسلة تعاقبية جديدة.
و نجد هذا المفهوم حاضرا بقوة في درس التعبير، حيث تتحدد هيكلته الزمنية في مجموعة من الحصص، و كل حصة يأخذ فيها المتعلم جرعة لغوية محددة تختلف عن سابقتها و عن لاحقتها من حيث الطبيعة و الهدف: فحصة التقديم تستهدف المعجم و الشخصيات و الأحداث و الحوار، و حصة التثبيت تروم الجانب البنيوي في النصوص، و حصة الاستثمار تتوخى استثمار تلك البنيات و إغناءها، و تتغيى حصص التقويم و الدعم تشخيص و تجاوز الصعوبات.
و هذا يعني أن درس التعبير يتم تقسيمه إلى سلسلة من السلوكات التعلمية المتعاقبة بقصد ترسيخ البنيات الأساسية، حتى يتمكن المتعلم من استضمارها و توظيفها في تعبيره الشفوي. و عندما يتحقق ذلك يكون التعلم قد حصل أو على الأقل بدأ يحصل.

ب ـ الإجراء: و هو الاستجابة الإرادية التي يتوسل بها المتعلم لتحقيق هدف إيجابي و هو الحصول على المكافأة (المعنوية خصوصا)، و هذا التحقيق يصبح تعزيزا و في نفس الوقت مثيرا لاستجابة موالية و هكذا دواليك بشكل تعاقبي.
و بحكم أن درس التعبير يهدف بشكل أساسي إلى جعل الطفل يستضمر نسقه اللغوي الفصيح، و بحكم أنه (الطفل) قد تجاوز المرحلة اللاشعورية في تعلم اللغة (تعلم النسق الدارج خارج المدرسة)، فإن تعلم اللغة الفصيحة يصبح إراديا و عن وعي، أي استجابة إرادية يتوسل بها المتعلم الوصول إلى هدف إيجابي سواء أكان خارجيا (المكافآت) أو داخليا (الشعور بالرضا).

ج ـ المثير و الاستجابة: و قد يكون هذا المثير ماديا أو معنويا، و قد يكون ذاتيا أو موضوعيا، و يتوخى تحقيق ردة الفعل المناسب (الاستجابة).
و لعل هذا الزوج (مثير / استجابة) من المكونات الأساسية لمنهجية تدريس التعبير، فبالرجوع إلى حصص التعبير، نجد ثلاثة أنماط من المثيرات المستعملة لإثارة الاستجابات اللغوية المحددة:
ـ النمط الأول: و يمكن نعته بالمثيرات الحسية (العلامات الأيقونية)، و تشمل اللوحة اللبدية و الصويرات و المشاهد و العلامات الورقية المصاحبة للتعجب و الاستفهام و السهام التي تحدد مصدر الخطاب و وجهته ...
ـ النمط الثاني: و يمكن تسميته بالمثيرات اللغوية و يدخل ضمنها : الأسئلة التحفيزية و الأناشيد ...
ـ النمط الثالث: و هو المثيرات التي تعتمد التشخيص و الأداء الحركي للجسد و التعابير الوجهية و التنغيم الصوتي ...
و تجدر الإشارة هنا إلى أنه قلما نجد مثيرا مستقلا بذاته عن باقي الأنماط الأخرى، إذ نستعمل مثلا المثيرات الحسية مصحوبة بمثيرات لغوية.

د ـ التعزيز و التدعيم: و هو عبارة عن مكافأة يقصد من ورائها تكرار نفس الاستجابات الصحيحة، و قد يكون التعزيز ماديا (كتقديم هدية للمتعلم) أو معنويا (كالثناء و المديح اللفظي).
و يمكن التمييز في دروس التعبير بين نمطين من التعزيزات:
ـ النمط الأول: يمكن تسميته بالتعزيز الخارجي لأن مصدره خارج ذات المتعلم، و يدخل ضمنه الثناء اللفظي و القيام بإشارات أو إيماءات أو تعابير وجهية تعبر عن الرضا من التلميذ الذي أبدى استجابة مناسبة، كما يندرج ضمن التعزيز الخارجي أيضا تقديم مكافأة مادية، غير أن هذه الأخيرة قلما يستعملها المدرس مع تلامذته، فكم من قطع حلوى مثلا سيحتاج لها إذا أراد أن يعزز بها استجابة واحدة من الاستجابات اللغوية التي تصدر عن المتعلمين ؟
ـ النمط الثاني: و يمكن تسميته بالتعزيز الداخلي أي الصادر عن سيكولوجيا المتعلم و ذاتيته (الرغبة في التفوق، جلب اهتمام المدرس و الأقران ...)
إن التعزيز بنمطيه (الخارجي و الداخلي) يهدف إلى تكوين استجابة لدى المتعلم و الإبقاء عليها أو نقلها إلى مواقف أخرى (انتقال الأثر).

3ـ الآلية الإبداعية (المدرسة البنيوية التكوينية) في دروس التعبير:
عند الحديث عن النموذج التكويني في التعلم، تتبادر إلى الذهن مجموعة من التساؤلات: ما علاقة التعلم بمراحل النمو ؟ ما هو مفهوم التعلم عند قطب هذه المدرسة و هو بياجي ؟ ما هي المفاهيم الأساسية ضمن نظريته التكوينية التي تمثل مقاربته لمسألة تعلم اللغة عند الطفل ؟

إن نظريات التعلم التي تعتمد المثير كوحدة أساسية من وحدات التعلم بالنسبة لبياجي لا تعطي اعتبارا للكيفية التي تتم بها معرفة المتعلم للمثير.و على هذا فمحور الارتكاز في نطرية بياجي للتعلم هي التحولات العقلية التي يقوم بها المتعلم كي يعرف المثير.
إن معرفة المثير، إذن جزء أساسي من حصول التعلم، هذا الأخير (التعلم) ينشأ عن التأمل أو التروي أو التعزيز، فأن يتعلم الشخص معناه أن تصبح لديه القدرة على تنظيم المعلومات المتناثرة عن المثير ثم ملاءمة هذه المعلومات مع الحقائق الجديدة.
و ترتكز نظرية بياجي حول التعلم على مجموعة من المفاهيم أهمها:

أ ـ مفهوم البنية:
إن امتلاك المتعلم القدرة على تنظيم معرفته بالموقف أو الشيء المراد تعلمه، يمكننا من القول بأنه تملك بنية ذلك الشيء، و تعني البنية مجموع العناصر المكونة لذلك الشيء و الوظائف التي يقوم بها كل عنصر في علاقته بالعناصر الأخرى ضمن الكلّ الذي تنتمي له.فإذا استطاع المتعلم أن ينظم معارفه اللغوية في بنيات، فإن قدرته هذه ستتجلى في تصريف معارفه في بنيات لغوية مشابهة أو مغايرة.
إن المتعلم و هو يتمثل البنيات الأسلوبية المروجة عبر نصوص الانطلاق في دروس التعبير، فعن طريق الترديد و التكرار تترسخ لديه بنية ذلك الأسلوب، و عندما يطلب منه تكوين ذلك الأسلوب في موقف جديد، فإنه سيطابق هنا بين الموقف الجديد و بنية الأسلوب التي يستدعيها. و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال عنصر الاستيعاب و الملاءمة، و هما جوهر
الإبداعية لدى بياجي.

ب ـ التوازن:
و هو قدرة موروثة تساعد الطفل/المتعلم على الربط بين مجموعة من المعلومات التي يتلقاها. و معنى ذلك أن التوازن هو تكيف الفرد مع متطلبات الموقف و محاولة تجاوزها. و للوصول إلى هذا التوازن، يتم ـ بالنسبة لبياجي ـ الجمع بين عنصرين:
ـ التمثّل: و هو تغيير و تحويل الخبرات الجديدة إلى خبرات مألوفة (الاستيعاب).
ـ الملاءمة: و هي عملية الانتباه التي تختص بالتجربة الجديدة و بصورة مستقلة عن الخبرات السابقة.

ج ـ التعزيز:
إن المتتبع لاشتغال مفهوم التعزيز عبر سيرورة درس التعبير، يقف عند مفارقة جمع المنهجية المعتمدة بين التعزيز لدى المدرسة السلوكية الذي يركز على المكافأة و مفهوم التعزيز لدى بياجي، الذي يعتبر أن الطفل يتعلم اللغة ليس طمعا في قطعة حلوى أو في كلمة رضا من الكبار... إن التعزيز لا يأتي من الخارج كمكافأة، و لكنه ينبع من الداخل، أي من ذاتية المتعلم. لأنه و هو يحل مشاكله اللغوية انطلاقا من استضماره لآليات اللغة، فإن ذلك ينعكس إيجابا على مستوى تعلمه.
 
عودة