جمال
Admin
- 📬
- 755
- ❓
- 0
- 👍
- 90
- 🏆
- 28
قام الفكر النِّسوي المعاصر في تحليل أسباب قهر المرأة، ومعالجة وضعها، ضمن استراتيجيَّة معرفيَّة ونظريَّة نقديَّة، تهدف إلى تغيير جذري لجميع الأنظمة والأسس التي أملاها النّظام الأبوي، وشكّلها كدستور شرعي وثقافي في المجتمع، وإلى إيجاد أرضيَّة فكريَّة تحتوي الجنسين على كفة من المساواة بينهما. فالتَّغيير الجذري لجميع الأسس والبنى التَّحتيَّة في جميع المجالات، هي مطلب جميع التَّوجهات النِّسويَّة المعاصرة، وإن اختلفت في مضمون خطابها الفكري وأطره وأهدافه، إلا أنَّ جميعها تناضل إلى رفض وتقويض الخطاب الأبوي.
فجميع التيارات النِّسويَّة المعاصرة في موجتها الثانية، ما هي إلاّ امتداد للموجة النِّسائيَّة الأولى ذات المطالب الاجتماعيَّة في بدايَة تبلورها؛ لذا يمكن التَّعريف بالموجات النِّسويَّة وتاريخ انطلاقها، على النحو التَّالي:
1- الموجة النِّسويَّة الأولى: والتي ظهرت في بريطانيا، “بظهور كتاب الفيلسوفة ماري ولستون كروفت دفاعا عن حقوق المرأة” 1792م، والتي أوضحت فيه أن النساء بحاجة للعقلانية، التي سيتوصلون إليها عن طريق التعليم، كما ناقشت نظرة المجتمع للأنوثة (2). وهي “أول حركة منظمة تعمل من أجل معالجة صور عدم المساواة الاجتماعيَّة والقانونيَّة التي كانت تعاني منها المرأة في القرن التَّاسع عشر”(3).
ومن أهم أهدافها قضايا التَّعليم، والتَّوظيف، وقوانين الزواج (4)، ومن أهم إنجازاتها الموجه النسوية الثانية:
2- الموجة النِّسويَّة الثانيَة: خرجت الموجة الثانيَة من رحم الحركة النِّسويَّة الأولى، والتي خرجت من إنجلترا؛ إذ ظهرت لتشير إلى نشاطات الحركة النسوية الممتدة ما بين 1960م إلى نهايات القرن العشرين، وفي هذه المرحلة بدأت الحركة النسوية تأخذ طابعا عالميا يشمل المرأة في جميع أنحاء العالم (5)، وخرجت وهي تحمل توجها آخر مبنيًّا على أسس وأيديولوجيات جديدة، وإن كانت كلها تدعو لتحرير المرأة ونيل حقوقها؛ إلا أنّها تحت الموجة بدأت تأخذ شكل تجمعات وتنظيمات، تدرس وتحلل وضع المرأة وتمييزها عن الرجل في الحقوق؛ “ففي أمريكا نبعت الموجة النِّسويَّة الثانيَة من حركات الحقوق المدنيَّة ومناهضة الحرب التي بدأت فيها النِّساء يتجمعن لمكافحة التَّمييز؛ بسبب شعورهن بالإحباط من وضعهن من الدرجة الثانيَة”(6).
ومن أهم أهدافها: محاولة تغيير حياة المرأة الخاصة وأدوارها المنزليَّة، عن طريق التَّدخل في مجال الإنجاب والميل الجنسي والتَّصوير الثقافي لها (7). وقد اهتمت بقضايا المرأة، “وفيها مطلب المساواة لاعتمادها على النقد العقلاني ويمكن تتبع أصولها من خلال كتاب فريدريك إنجلز أصل العائلة والملكية الخاصة للدولة”، بالإضافة إلى سيمون دي بوفوار “الجنس الآخر” بحيث توازي سيمون دي بوفوار بين مصير الذات الخاضعة للاستعمار وبين مصير النساء، وبالتالي تجاهل التعقيدات والخصوصيات التي تتعلق بالانتماء إلى الآخر على أساس الجنس أو العرق أو الثقافة”(8).
3- الموجة النسوية الثالثة: وهذه الموجة، أي النِّسويَّة الجديدة “نسويَّة ما بعد الحداثة” ظهرت في بداية التسعينات وامتدت إلى يومنا هذا، من أهم أهدافها: رفض كل النظريات والأفكار المطلقة، وإعادة كتابة ما خطه النظام الأبويَّ، فاخترقت الحدود التَّقليديَّة بين ثقافة الصفوة والثقافة الراقية، والنظريَّة والممارسة، والفن والحياة، والمهيمن والمهمش، وتحليل الأنماط الهرميَّة للفكر والتَّصنيفات المتعارف عليها للقيم (9)، ومن أبرز ما يميزها هو “نقد النموذج العقلاني للإنسان، ورفض انفراده بالميدان كمركز للحضارة الغربيَّة”(10).
وأيضًا، “ترفض التَّفسير الذكوري المطروح في العلم، وتؤكد ديمقراطيَّة العلم وتعدديته، وأنه إنجاز إنساني مشترك مفتوح أمام أي حضارة، غربيَّة كانت أم شرقيَّة، وأمام أي إنسان رجلًا كان أم امرأة”(11).
ثم تفرعت عن هذه الموجات (الأولى والثانيَة) تيارات واتِّجاهات نسويَّة تختلف فيما بينها في الأسُس، والطرق المـُعالِجة لوضعيَّة النِّساء ومطالبهن، “وقد انتشرت هذه الحركة في جميع العالم؛ حيث ساعدت على الخوض في بعض الموضوعات التي كانت بمثابة مناطق محرمة، تلك التي تتعلق بالمسائل الجنسيَّة بين الرجل والمرأة”(12).
فهذا الفكر النِّسوي بمسمّاه العام، وإن تنوعت توجهاتها وتنظيراتها وأيديولوجيَّاتها؛ إلاّ أنّه يجتمع في قالب فكري واحد، المناداة بحقوق المرأة المضطهدة -مشاركتها بالمجالات العامة والخاصة للدولة-، ومساواتها مع الرجل.
وعليه فقد جاءت المقالة لتوضح وتبين -بتوفيق الله- أهم التيارات النِّسويَّة؛ إذ هناك مسميَّات (13) أخرى للتيارات، والتي ظهرت حسب أيديولوجيَّاتهن، وأطروحاتهن، ونظريَّاتهن المختلفة، لكن مقصود المقالة هو تطرّقها لأهم التيارات المنتشرة؛ لأنّها الأساس الذي تولّدت منه التيارات الأخرى، التي ظهرت فيما بعد كأنظمة متعددة وأفكار متشعّبة، تختلف فيما بينها من حيث توجهها، ومطالبها، ودعاتها، مع مراعاة ترتيبها الزمني في ذلك.
أولا- التيار النسوي الليبرالي Liberal Feminism:
هو تيار نسوي يركز على الفردية أو على المرأة كفرد، وعلى قدرات المرأة وإمكانياتها في الحصول على حقوقها والمحافظة عليها، وذلك من خلال نشاطها وفاعليتها واختيارها (14)، حيث يعد أول التيارات ظهورا، والمؤسس المساعد لظهور تيارات أخرى متأثرة ببعض المدارس الفلسفية والأطروحات الفكرية.
غير أن النسوية الليبرالية تأثرت بأفكار ومبادئ رواد الفلسفة الليبرالية كجون لوك روسو وبنتام ومل، “من أقدم الاتِّجاهات النِّسويَّة وأولها ظهورًا، وتعود في أصولها الفكريَّة إلى الفلسفة الليبراليَّة التي أسسها جون لوك وجان جوك روسو، وطورها جيرمي بنتام ومل، والتي ترعرعت في تربتها مبادئ الديمقراطيَّة، الحريَّة والعدالة والمساواة”(15). ومن أهم مؤسسات النسوية الليبرالية وحاملات المطالب ماري ولستنكرافت التي نادت بتحسين أوضاع النساء.
إنّ ما تسعى إليه الليبراليَّة في القرن التَّاسع عشر، من إيجاد مجتمع يقيم الجنسين على كفة من المساواة التَّامّة، “يتضمن المدنيين الذين يتمتعون بحقوق متساوية أمام القانون والمشاركة في العمليَّة الاقتصاديَّة والسياسيَّة كعملاء فرديين متساوين” (16).
فهذه الحركة من خلال مطالبها تؤكّد على التَّشخيص الإنساني للنّساء، ومساواتهن مع الرّجال، والسّعي إلى التَّغلب على العوائق التي تعاني منها النِّساء في الأنظمة الدينيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، التي تم تشكيلها من جانب المجتمع الأبوي (17).
فانطلق هذا التيار متبنّيًا أفكار الدّيمقراطيَّة، على يد الفيلسوفة الفرنسيَّة أولامب ده غودج Olympe De Gouge، ومعاصرتها البريطانيَّة ماري ولستونكروفت Mare Wollstonecra، وظهرت الأخرى بظهور كتابها “دفاعًا عن حقوق المرأة” (1792م)، فتعتبر ماري رمزًا للحركة النِّسويَّة، والتي سعت لإصلاح حال النِّساء والمطالبة بحقوقهن، ومن الملاحظ أنّ “نسويَّة القرن التَّاسع عشر، قد تطورت إلى حد كبير كرد فعل على صعاب محددة اعترضت مجموعة معينة من النِّساء في حياتهن” (18).
فظهرت من بينهن أول رائدة مدافعة عن حقوق النِّساء هي ماري ولستونكروفت Mare Wollstonecra، “وسط الاضطرابات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي تمخضت عنها الثورة الفرنسيَّة” (19)، التي رُفع فيها شعار (الحريَّة، الإخاء، والمساواة)، فتحركت المرأة للبحث عن حقوقها الضائعة.
والشاهد من هذا كله، أن كل ما يسعى إليه التيار النِّسوي الليبرالي، المساواة السياسيَّة والاجتماعيَّة بين الجنسين.
ثانيا- التيار النسوي الماركسي/ الاشتراكي Marxist Feminis Socialism:
يمكن اعتباره مناهضًا للاتِّجاه الليبرالي، وفي نفس الوقت مكملا لمسيرته النضاليَّة؛ حيث إنه وجد قصورًا وظلمًا في حقوق المرأة العاملة والتي لم يحررها هذا التيار، فأتى هذا التَّوجه -التيار الماركسي- ليحرر المرأة في ميدان العمل والصناعة والإنتاج، ويعلن مساواتها مع الرجل في ذلك.
والمعروف أن تاريخ النِّسويَّة الماركسيَّة مرتبط بماركس وإنجلز؛ حيث ربط اضطهاد المرأة بأفكار ماركس التي تتعلق باستغلال الرأسمالية لجهود الطبقات العاملة، واستغلال المجتمع البطريركي لجهود النساء (20)، ولقد وعد ماركس وإنجلز المرأة العاملة بالتَّحرر إن خرجت من منزلها ولحقت بالإنتاج.
“يُعنى الاتِّجاه النِّسوي الماركسي أساسًا بالعلاقات المتبادلة بين الرأسماليَّة والسلطة الأبويَّة، وتمتد الجذور الفكريَّة لهذا الاتِّجاه إلى نظريَّة إنجلز، التي تذهب إلى أنّ السّلطة الأبويَّة قد نشأت اجتماعيًّا مع تطور نظام الملكيَّة الخاصة، لذا فهي ترى أنّ قهر المرأة آليَّة من آليَّات النظام الرأسمالي، ولقد رأى إنجلز أنّ رفع الوصايَة عن المرأة مرتبط بخروجها إلى العمل، وانضمامها إلى صفوف البروليتاريا، وكفاحها من أجل الاشتراكيَّة التي تحرر كافة الطبقات والفئات التي تعاني من القهر والاضطهاد”(21).
فلذا، يرى هذا التيار أن قمع المرأة وقهرها بدأ مع ظهور الملكية الخاصة، فنقل الملكية بالإرث سبب مؤسس للعلاقات غير المتوازنة، وتوزيع للمهام والأعمال على أساس من التمييز الجنسي. وقد شيدت الرأسمالية نظامًا للعمل يميّز ما بين المجالين الخاص والعام: فللرجل العمل المنتج والمدفوع، وللمرأة الأعمال المنزلية المجانية غير المصنفة ضمن الإنتاج، واستندوا إلى اعتبار إنجلز أن قيام الرأسمالية والملكية الخاصة أكبر هزيمة للجنس النسائي (22).
ولكن مما يُنتقد على ماركس وإنجلز، أنّه لما وضع المرأة في إطار العائلة “لم يميز بين الذكور والإناث في العمل” (23).
ينتقد التيار الماركسي وضعيَّة المرأة في العمل لدى الفكر الماركسي، حيث جعل تحرر المرأة مرتبطًا بخروجها للعمل، وألغى أولويَّة دورها في الأسرة، فأُخضعت لآليَّات العمل كالرجل، دون مراعاة لجنسها وأنوثتها؛ لذا تأتي المطالبة بقضيَّة النظر للجنس في العمل. وعليه، فقد أدّت مطالبهن إلى انفصال التيار النِّسوي الماركسي، والمتأصلة جذوره بماركس وإنجلز؛ إلى ظهور الاتِّجاه الماركسي الرافض لحلول ماركس وإنجلز، “وقد ترتب على ذلك أن انبعثت حركة نسائيَّة ماركسيَّة عام 1920م قامت بمراجعة النظريَّة الماركسيَّة، محاولة إجراء مواءمة بين هذه النظريَّة والفكر النِّسوي المتعلق بالعلاقات بين الذكور والإناث وبنظام الجنس”(24). ويقصد من ذلك العلاقات القائمة بين الجنسين على الأسس الاجتماعيَّة، وتناول فيه قضيَّة المرأة والأسرة والجنس والإنجاب.
هناك بعض الأطر الرئيسيَّة التي حددتها كلٌّ من: روزماري رادفوردRosemary Radford، وساندرا Sandra، حين ظهور الحركة الماركسيَّة، من ذلك: التَّركيز على المطلب السياسي والقانوني، وتحقيق المساواة الكاملة في الفرص، والمشاركة في مجال الثقافة، والتَّاريخ، والفن، والاقتصاد، والأسرة، والمعرفة.
وهذه الحركة الماركسيَّة، تعمل من أجل حل عملي في القضايا الأساسيَّة لحصول النِّساء على الرعايَة الصحيَّة، وتكافؤ الفرص في التَّوظيف والتَّعويضات، والتَّمثيل العادل في النظم السياسيَّة والقانونيَّة، وحمايَة المرأة في إطار الزواج والأسرة، وتوفير الرعايَة النهاريَّة للعمل والأمهات الأرامل، وخدمات لرعايَة الأمهات والأطفال، وتأمين وتوسيع نطاق الحقوق الإنجابيَّة والحريَّات، وإعادة تشكيل القوانين المتعلقة بالاغتصاب والتَّحرش الجنسي، والتَّوعية والحمايَة للنساء المعنفات، وتعليم النِّساء الأميَّات والمهاجرات، والعديد من المجالات الأخرى التي أهملها المجتمع الأبوي، وتجاهلها(25). فهذه هي أهم مطالب الاتِّجاه الماركسي نحو المرأة العاملة المتحررة.
وفي ضوء تلك المقاربات التي سعت الحركة لإعادة تشكيلها؛ حلّ النّظام الاشتراكي -النسوية الاشتراكية- محل الرأسمالي والماركسي، فمن خلاله فقط -كما يرى التيار النِّسوي الماركسي- ستتحرر المرأة العاملة، وتضمن جميع حقوقها، “إذا قدر لكلّ النِّساء أن يتحررن يومًا ما فإنّ النّظام الرأسمالي سينتهي ليحل محلّه النّظام الشيوعي؛ وذلك لأنّ في ظل الشيوعيَّة لن يكون أحد مسئولا عن أحد، أو معتمدًا اقتصاديًّا على الآخر، فالنِّساء سيكنّ اقتصاديًّا مستقلات عن الرجال، وبناءً على ذلك سيكُنَّ متساويات معهم”(26).
وعليه فإن المقصود هنا بيان: أنه نتيجة للظلم الواقع على المرأة العاملة في ظلّ النّظام الماركسي؛ فإن التيار النِّسوي الماركسي أو الاتِّجاه الاشتراكي، يعتبر الصّورة النّهائيَّة للمناضلات الماركسيَّات ضد النّظام الماركسي في الاقتصاد والأسرة، والسعي التام لتحرر المرأة الكامل من تبعيَّة الرجل، وخضوعها لأصحاب الملكيَّات، الزوج، أو أصحاب رؤوس الأموال، ومساواتها في العمل كالرجل، وذلك لن يتم إلا بالقضاء على قانون الملكيَّة الفرديَّة، والنظام الطبقي الرأسمالي الذي يسيطر على أنظمته الرّجال.
ثالثا- التيار النِّسوي الرّاديكالي Radical Feminism:
لم يبق الحراك النسوي مقيدا بتحرر المرأة العاملة والقضاء على دورها التقليدي، بل ظهر في منتصف القرن التَّاسع عشر مذاهب فكريَّة أكثر تحررًا وتطرفًا نحو الفرد نفسه، نحو تحرره من القيود، وانعكافه حول نفسه وماديّته ومنفعته، وظهر رجال ونساء متطرفون في فكرهم، وفي تمركزهم حول أنفسهم، وظهرت توجهات رافضة لقيم ومبادئ المجتمع في المجالين العام والخاص، فسعت لتغييرها من جذورها، وهذا ما يطلق عليه الاتِّجاه النِّسوي الراديكالي، الذي يرى أنّ جميع الاتِّجاهات السابقة لم تحرر المرأة، وأنّها ما زالت مستعبدة من قبل الرجل، والجسد، والتَّناسل، والإنتاج، فكان لا بد لهذه الأنظمة والأبنية من الإزالة والتَّغيير الجذري، لتتحقق الحريَّة تامة للمرأة، ومن التَّمركز حول نفسها.
والمقصود من مفهوم الرّاديكاليَّة -أي المتطرّفة-: أنه “يطلق لفظ راديكالي على كل منادٍ بالتَّغيير الجذري”(27)، وترتبط هذه الحركة بالفكر النِّسوي، والسياسة النِّسويَّة المتطرفة، “وقد نشأت ما بين عامي 1960م – 1970م في شمال أمريكا، ونالت اعترافًا واسعًا؛ نظرًا لتأثيرها على السياسات الخاصة بأوضاع النِّساء في الغرب”(28).
لقد ظهرت هذه الحركة على أيدي نسويَّة متطرفة، ومن مفكرات وداعيات الحركة: شولاميث فايرستون Shulamith Firestone، وكيت ميليت kate Millet، وقد أعربت هؤلاء النِّساء عن ضرورة التَّحولات الجذريَّة في الجنسانيَّة والعائلة الأبويَّة، وقيمة الانفصاليَّة كاستراتيجيَّة بقاء ومقاومة في حياة المرأة وميادينها ومؤسساتها ومنظماتها (29)، فالتَّركيز هنا على النّوع، واستبعاد الفروق الجنسيَّة كمؤشر للتمييز.
حيث يرى أنصار الراديكالية أن البطريركية هي أساس التمييز ضد النساء، والسيطرة عليهن في كافة ميادين الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وأن البطريركية تخلق نظام تنميط للجنسين من خلال ثقافتين: ثقافة ذكورية، وثقافة نسائية مسيطر عليها، فترى أن الرجل هو المتحكم بهرمية المال، وهذا يفسر اضطهاد الرجل على المرأة، وأن وضع المرأة الحالي ناتج عن سيطرة الرجل على مراكز القوى والسلطة والمال، وهو المسؤول الأول عن اضطهادها، وطالما أن هذا النظام وهذه القيم هي التي تحكم المجتمع، فإن المرأة لن تتمكن من إنجاز أي تغيير هام في مسيرتها نحو المساواة (30).
تؤمن النسوية الراديكالية بأن السلطة الذكورية هي أصل البناء الاجتماعي لفكرة النوع (رجلاً أو امرأة)، وترى أن هذا النظام لا يمكن إصلاحه، ولذلك يجب القضاء عليه لا على المستوى السياسي والقانوني وحسب، ولكن على المستوى الاجتماعي والثقافي أيضًا (31).
إنّ ما يفصح عنه هذا التَّوجه أنّ دونيَّة المرأة واضطهادها كان سببه النّظام الأبوي السائد على مرِّ العصور، وأنّه لا مجال لتحسين أوضاعهن إلاّ بإزالة هذا النّظام، وإحلال مفهوم (فردانيَّة) (32) النِّساء وحق تملك أجسادهن.
فكان من أهم استراتيجيات التيار الراديكالي، تغيير المعادلة الاجتماعية القائمة، واستعادة النساء لأجسامهن وكيانهن، وإعادة الاعتبار إلى ثقافة خاصة بهن إلى حد الانفصال عن الرجال، والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة. واستعاد هذا التيار قول النسوية الوجودية سيمون دو بوفوار (لا تولد المرأة امرأة، لكنها تصبح كذلك) جاعلا منه أبرز شعاراته (33).
في فترة السبعينيات رأى التيار النسوي أن التمييز بين الرجل والمرأة يتبلور بشكل أساسي في العلاقات الجنسية بينهما، ولمحاربة هذا التمييز ينبغي اجتثاث الجذر، وهو العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وخلق علاقات مثلية يكون الطرفان فيها متساويين (34). تقول شولاميث فايرستون في كتابها جدلية الجنس: إن القضاء على الأدوار المرتبطة بالجنس لن يتحقق إلا بالقضاء على الأدوار الثابتة التي يقوم بها الرجل والمرأة في عملية الإنجاب، ومن هنا فإن منع الحمل، والتعقيم، والإجهاض، ثم التلقيح الصناعي منذ ذلك الحين، كلها وسائل تساعد على تقليل التمييز البيولوجي، ومن ثَم الحد من التمييز بين الجنسين في مجال السلطة (35).
وخلاصة القول هنا: أن النسوية الراديكالية تعتبر حركة فكرية وسياسية واجتماعية متطرفة، تسعى إلى “تغيير بناء العلاقات بين الجنسين وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وتختلف نظرياتها وأهدافها وتحليلاتها تبعا للمنطلقات المعرفية التي تتبناها، وتتسم أفكارها بالتطرف والشذوذ، وتتبنى صراع الجنسين وعداءهما، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدة عن الدين واللغة والتاريخ والثقافة وعلاقات الجنسين”(36).
وفي خاتمة المقالة يتلخص لنا:
أن التيارات النسوية متعددة الأفكار والتيارات، تسعى للتغيير الاجتماعي والثقافي، وتغيير بناء العلاقات بين الجنسين، وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وتتسم أفكارها بالتطرف والشذوذ، وتتبنى العداء والصراع بين الجنسين، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدة للدين واللغة والتاريخ والثقافة.
فجميع التيارات النِّسويَّة المعاصرة في موجتها الثانية، ما هي إلاّ امتداد للموجة النِّسائيَّة الأولى ذات المطالب الاجتماعيَّة في بدايَة تبلورها؛ لذا يمكن التَّعريف بالموجات النِّسويَّة وتاريخ انطلاقها، على النحو التَّالي:
1- الموجة النِّسويَّة الأولى: والتي ظهرت في بريطانيا، “بظهور كتاب الفيلسوفة ماري ولستون كروفت دفاعا عن حقوق المرأة” 1792م، والتي أوضحت فيه أن النساء بحاجة للعقلانية، التي سيتوصلون إليها عن طريق التعليم، كما ناقشت نظرة المجتمع للأنوثة (2). وهي “أول حركة منظمة تعمل من أجل معالجة صور عدم المساواة الاجتماعيَّة والقانونيَّة التي كانت تعاني منها المرأة في القرن التَّاسع عشر”(3).
ومن أهم أهدافها قضايا التَّعليم، والتَّوظيف، وقوانين الزواج (4)، ومن أهم إنجازاتها الموجه النسوية الثانية:
2- الموجة النِّسويَّة الثانيَة: خرجت الموجة الثانيَة من رحم الحركة النِّسويَّة الأولى، والتي خرجت من إنجلترا؛ إذ ظهرت لتشير إلى نشاطات الحركة النسوية الممتدة ما بين 1960م إلى نهايات القرن العشرين، وفي هذه المرحلة بدأت الحركة النسوية تأخذ طابعا عالميا يشمل المرأة في جميع أنحاء العالم (5)، وخرجت وهي تحمل توجها آخر مبنيًّا على أسس وأيديولوجيات جديدة، وإن كانت كلها تدعو لتحرير المرأة ونيل حقوقها؛ إلا أنّها تحت الموجة بدأت تأخذ شكل تجمعات وتنظيمات، تدرس وتحلل وضع المرأة وتمييزها عن الرجل في الحقوق؛ “ففي أمريكا نبعت الموجة النِّسويَّة الثانيَة من حركات الحقوق المدنيَّة ومناهضة الحرب التي بدأت فيها النِّساء يتجمعن لمكافحة التَّمييز؛ بسبب شعورهن بالإحباط من وضعهن من الدرجة الثانيَة”(6).
ومن أهم أهدافها: محاولة تغيير حياة المرأة الخاصة وأدوارها المنزليَّة، عن طريق التَّدخل في مجال الإنجاب والميل الجنسي والتَّصوير الثقافي لها (7). وقد اهتمت بقضايا المرأة، “وفيها مطلب المساواة لاعتمادها على النقد العقلاني ويمكن تتبع أصولها من خلال كتاب فريدريك إنجلز أصل العائلة والملكية الخاصة للدولة”، بالإضافة إلى سيمون دي بوفوار “الجنس الآخر” بحيث توازي سيمون دي بوفوار بين مصير الذات الخاضعة للاستعمار وبين مصير النساء، وبالتالي تجاهل التعقيدات والخصوصيات التي تتعلق بالانتماء إلى الآخر على أساس الجنس أو العرق أو الثقافة”(8).
3- الموجة النسوية الثالثة: وهذه الموجة، أي النِّسويَّة الجديدة “نسويَّة ما بعد الحداثة” ظهرت في بداية التسعينات وامتدت إلى يومنا هذا، من أهم أهدافها: رفض كل النظريات والأفكار المطلقة، وإعادة كتابة ما خطه النظام الأبويَّ، فاخترقت الحدود التَّقليديَّة بين ثقافة الصفوة والثقافة الراقية، والنظريَّة والممارسة، والفن والحياة، والمهيمن والمهمش، وتحليل الأنماط الهرميَّة للفكر والتَّصنيفات المتعارف عليها للقيم (9)، ومن أبرز ما يميزها هو “نقد النموذج العقلاني للإنسان، ورفض انفراده بالميدان كمركز للحضارة الغربيَّة”(10).
وأيضًا، “ترفض التَّفسير الذكوري المطروح في العلم، وتؤكد ديمقراطيَّة العلم وتعدديته، وأنه إنجاز إنساني مشترك مفتوح أمام أي حضارة، غربيَّة كانت أم شرقيَّة، وأمام أي إنسان رجلًا كان أم امرأة”(11).
ثم تفرعت عن هذه الموجات (الأولى والثانيَة) تيارات واتِّجاهات نسويَّة تختلف فيما بينها في الأسُس، والطرق المـُعالِجة لوضعيَّة النِّساء ومطالبهن، “وقد انتشرت هذه الحركة في جميع العالم؛ حيث ساعدت على الخوض في بعض الموضوعات التي كانت بمثابة مناطق محرمة، تلك التي تتعلق بالمسائل الجنسيَّة بين الرجل والمرأة”(12).
فهذا الفكر النِّسوي بمسمّاه العام، وإن تنوعت توجهاتها وتنظيراتها وأيديولوجيَّاتها؛ إلاّ أنّه يجتمع في قالب فكري واحد، المناداة بحقوق المرأة المضطهدة -مشاركتها بالمجالات العامة والخاصة للدولة-، ومساواتها مع الرجل.
وعليه فقد جاءت المقالة لتوضح وتبين -بتوفيق الله- أهم التيارات النِّسويَّة؛ إذ هناك مسميَّات (13) أخرى للتيارات، والتي ظهرت حسب أيديولوجيَّاتهن، وأطروحاتهن، ونظريَّاتهن المختلفة، لكن مقصود المقالة هو تطرّقها لأهم التيارات المنتشرة؛ لأنّها الأساس الذي تولّدت منه التيارات الأخرى، التي ظهرت فيما بعد كأنظمة متعددة وأفكار متشعّبة، تختلف فيما بينها من حيث توجهها، ومطالبها، ودعاتها، مع مراعاة ترتيبها الزمني في ذلك.
أولا- التيار النسوي الليبرالي Liberal Feminism:
هو تيار نسوي يركز على الفردية أو على المرأة كفرد، وعلى قدرات المرأة وإمكانياتها في الحصول على حقوقها والمحافظة عليها، وذلك من خلال نشاطها وفاعليتها واختيارها (14)، حيث يعد أول التيارات ظهورا، والمؤسس المساعد لظهور تيارات أخرى متأثرة ببعض المدارس الفلسفية والأطروحات الفكرية.
غير أن النسوية الليبرالية تأثرت بأفكار ومبادئ رواد الفلسفة الليبرالية كجون لوك روسو وبنتام ومل، “من أقدم الاتِّجاهات النِّسويَّة وأولها ظهورًا، وتعود في أصولها الفكريَّة إلى الفلسفة الليبراليَّة التي أسسها جون لوك وجان جوك روسو، وطورها جيرمي بنتام ومل، والتي ترعرعت في تربتها مبادئ الديمقراطيَّة، الحريَّة والعدالة والمساواة”(15). ومن أهم مؤسسات النسوية الليبرالية وحاملات المطالب ماري ولستنكرافت التي نادت بتحسين أوضاع النساء.
إنّ ما تسعى إليه الليبراليَّة في القرن التَّاسع عشر، من إيجاد مجتمع يقيم الجنسين على كفة من المساواة التَّامّة، “يتضمن المدنيين الذين يتمتعون بحقوق متساوية أمام القانون والمشاركة في العمليَّة الاقتصاديَّة والسياسيَّة كعملاء فرديين متساوين” (16).
فهذه الحركة من خلال مطالبها تؤكّد على التَّشخيص الإنساني للنّساء، ومساواتهن مع الرّجال، والسّعي إلى التَّغلب على العوائق التي تعاني منها النِّساء في الأنظمة الدينيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة، التي تم تشكيلها من جانب المجتمع الأبوي (17).
فانطلق هذا التيار متبنّيًا أفكار الدّيمقراطيَّة، على يد الفيلسوفة الفرنسيَّة أولامب ده غودج Olympe De Gouge، ومعاصرتها البريطانيَّة ماري ولستونكروفت Mare Wollstonecra، وظهرت الأخرى بظهور كتابها “دفاعًا عن حقوق المرأة” (1792م)، فتعتبر ماري رمزًا للحركة النِّسويَّة، والتي سعت لإصلاح حال النِّساء والمطالبة بحقوقهن، ومن الملاحظ أنّ “نسويَّة القرن التَّاسع عشر، قد تطورت إلى حد كبير كرد فعل على صعاب محددة اعترضت مجموعة معينة من النِّساء في حياتهن” (18).
فظهرت من بينهن أول رائدة مدافعة عن حقوق النِّساء هي ماري ولستونكروفت Mare Wollstonecra، “وسط الاضطرابات الاجتماعيَّة والسياسيَّة التي تمخضت عنها الثورة الفرنسيَّة” (19)، التي رُفع فيها شعار (الحريَّة، الإخاء، والمساواة)، فتحركت المرأة للبحث عن حقوقها الضائعة.
والشاهد من هذا كله، أن كل ما يسعى إليه التيار النِّسوي الليبرالي، المساواة السياسيَّة والاجتماعيَّة بين الجنسين.
ثانيا- التيار النسوي الماركسي/ الاشتراكي Marxist Feminis Socialism:
يمكن اعتباره مناهضًا للاتِّجاه الليبرالي، وفي نفس الوقت مكملا لمسيرته النضاليَّة؛ حيث إنه وجد قصورًا وظلمًا في حقوق المرأة العاملة والتي لم يحررها هذا التيار، فأتى هذا التَّوجه -التيار الماركسي- ليحرر المرأة في ميدان العمل والصناعة والإنتاج، ويعلن مساواتها مع الرجل في ذلك.
والمعروف أن تاريخ النِّسويَّة الماركسيَّة مرتبط بماركس وإنجلز؛ حيث ربط اضطهاد المرأة بأفكار ماركس التي تتعلق باستغلال الرأسمالية لجهود الطبقات العاملة، واستغلال المجتمع البطريركي لجهود النساء (20)، ولقد وعد ماركس وإنجلز المرأة العاملة بالتَّحرر إن خرجت من منزلها ولحقت بالإنتاج.
“يُعنى الاتِّجاه النِّسوي الماركسي أساسًا بالعلاقات المتبادلة بين الرأسماليَّة والسلطة الأبويَّة، وتمتد الجذور الفكريَّة لهذا الاتِّجاه إلى نظريَّة إنجلز، التي تذهب إلى أنّ السّلطة الأبويَّة قد نشأت اجتماعيًّا مع تطور نظام الملكيَّة الخاصة، لذا فهي ترى أنّ قهر المرأة آليَّة من آليَّات النظام الرأسمالي، ولقد رأى إنجلز أنّ رفع الوصايَة عن المرأة مرتبط بخروجها إلى العمل، وانضمامها إلى صفوف البروليتاريا، وكفاحها من أجل الاشتراكيَّة التي تحرر كافة الطبقات والفئات التي تعاني من القهر والاضطهاد”(21).
فلذا، يرى هذا التيار أن قمع المرأة وقهرها بدأ مع ظهور الملكية الخاصة، فنقل الملكية بالإرث سبب مؤسس للعلاقات غير المتوازنة، وتوزيع للمهام والأعمال على أساس من التمييز الجنسي. وقد شيدت الرأسمالية نظامًا للعمل يميّز ما بين المجالين الخاص والعام: فللرجل العمل المنتج والمدفوع، وللمرأة الأعمال المنزلية المجانية غير المصنفة ضمن الإنتاج، واستندوا إلى اعتبار إنجلز أن قيام الرأسمالية والملكية الخاصة أكبر هزيمة للجنس النسائي (22).
ولكن مما يُنتقد على ماركس وإنجلز، أنّه لما وضع المرأة في إطار العائلة “لم يميز بين الذكور والإناث في العمل” (23).
ينتقد التيار الماركسي وضعيَّة المرأة في العمل لدى الفكر الماركسي، حيث جعل تحرر المرأة مرتبطًا بخروجها للعمل، وألغى أولويَّة دورها في الأسرة، فأُخضعت لآليَّات العمل كالرجل، دون مراعاة لجنسها وأنوثتها؛ لذا تأتي المطالبة بقضيَّة النظر للجنس في العمل. وعليه، فقد أدّت مطالبهن إلى انفصال التيار النِّسوي الماركسي، والمتأصلة جذوره بماركس وإنجلز؛ إلى ظهور الاتِّجاه الماركسي الرافض لحلول ماركس وإنجلز، “وقد ترتب على ذلك أن انبعثت حركة نسائيَّة ماركسيَّة عام 1920م قامت بمراجعة النظريَّة الماركسيَّة، محاولة إجراء مواءمة بين هذه النظريَّة والفكر النِّسوي المتعلق بالعلاقات بين الذكور والإناث وبنظام الجنس”(24). ويقصد من ذلك العلاقات القائمة بين الجنسين على الأسس الاجتماعيَّة، وتناول فيه قضيَّة المرأة والأسرة والجنس والإنجاب.
هناك بعض الأطر الرئيسيَّة التي حددتها كلٌّ من: روزماري رادفوردRosemary Radford، وساندرا Sandra، حين ظهور الحركة الماركسيَّة، من ذلك: التَّركيز على المطلب السياسي والقانوني، وتحقيق المساواة الكاملة في الفرص، والمشاركة في مجال الثقافة، والتَّاريخ، والفن، والاقتصاد، والأسرة، والمعرفة.
وهذه الحركة الماركسيَّة، تعمل من أجل حل عملي في القضايا الأساسيَّة لحصول النِّساء على الرعايَة الصحيَّة، وتكافؤ الفرص في التَّوظيف والتَّعويضات، والتَّمثيل العادل في النظم السياسيَّة والقانونيَّة، وحمايَة المرأة في إطار الزواج والأسرة، وتوفير الرعايَة النهاريَّة للعمل والأمهات الأرامل، وخدمات لرعايَة الأمهات والأطفال، وتأمين وتوسيع نطاق الحقوق الإنجابيَّة والحريَّات، وإعادة تشكيل القوانين المتعلقة بالاغتصاب والتَّحرش الجنسي، والتَّوعية والحمايَة للنساء المعنفات، وتعليم النِّساء الأميَّات والمهاجرات، والعديد من المجالات الأخرى التي أهملها المجتمع الأبوي، وتجاهلها(25). فهذه هي أهم مطالب الاتِّجاه الماركسي نحو المرأة العاملة المتحررة.
وفي ضوء تلك المقاربات التي سعت الحركة لإعادة تشكيلها؛ حلّ النّظام الاشتراكي -النسوية الاشتراكية- محل الرأسمالي والماركسي، فمن خلاله فقط -كما يرى التيار النِّسوي الماركسي- ستتحرر المرأة العاملة، وتضمن جميع حقوقها، “إذا قدر لكلّ النِّساء أن يتحررن يومًا ما فإنّ النّظام الرأسمالي سينتهي ليحل محلّه النّظام الشيوعي؛ وذلك لأنّ في ظل الشيوعيَّة لن يكون أحد مسئولا عن أحد، أو معتمدًا اقتصاديًّا على الآخر، فالنِّساء سيكنّ اقتصاديًّا مستقلات عن الرجال، وبناءً على ذلك سيكُنَّ متساويات معهم”(26).
وعليه فإن المقصود هنا بيان: أنه نتيجة للظلم الواقع على المرأة العاملة في ظلّ النّظام الماركسي؛ فإن التيار النِّسوي الماركسي أو الاتِّجاه الاشتراكي، يعتبر الصّورة النّهائيَّة للمناضلات الماركسيَّات ضد النّظام الماركسي في الاقتصاد والأسرة، والسعي التام لتحرر المرأة الكامل من تبعيَّة الرجل، وخضوعها لأصحاب الملكيَّات، الزوج، أو أصحاب رؤوس الأموال، ومساواتها في العمل كالرجل، وذلك لن يتم إلا بالقضاء على قانون الملكيَّة الفرديَّة، والنظام الطبقي الرأسمالي الذي يسيطر على أنظمته الرّجال.
ثالثا- التيار النِّسوي الرّاديكالي Radical Feminism:
لم يبق الحراك النسوي مقيدا بتحرر المرأة العاملة والقضاء على دورها التقليدي، بل ظهر في منتصف القرن التَّاسع عشر مذاهب فكريَّة أكثر تحررًا وتطرفًا نحو الفرد نفسه، نحو تحرره من القيود، وانعكافه حول نفسه وماديّته ومنفعته، وظهر رجال ونساء متطرفون في فكرهم، وفي تمركزهم حول أنفسهم، وظهرت توجهات رافضة لقيم ومبادئ المجتمع في المجالين العام والخاص، فسعت لتغييرها من جذورها، وهذا ما يطلق عليه الاتِّجاه النِّسوي الراديكالي، الذي يرى أنّ جميع الاتِّجاهات السابقة لم تحرر المرأة، وأنّها ما زالت مستعبدة من قبل الرجل، والجسد، والتَّناسل، والإنتاج، فكان لا بد لهذه الأنظمة والأبنية من الإزالة والتَّغيير الجذري، لتتحقق الحريَّة تامة للمرأة، ومن التَّمركز حول نفسها.
والمقصود من مفهوم الرّاديكاليَّة -أي المتطرّفة-: أنه “يطلق لفظ راديكالي على كل منادٍ بالتَّغيير الجذري”(27)، وترتبط هذه الحركة بالفكر النِّسوي، والسياسة النِّسويَّة المتطرفة، “وقد نشأت ما بين عامي 1960م – 1970م في شمال أمريكا، ونالت اعترافًا واسعًا؛ نظرًا لتأثيرها على السياسات الخاصة بأوضاع النِّساء في الغرب”(28).
لقد ظهرت هذه الحركة على أيدي نسويَّة متطرفة، ومن مفكرات وداعيات الحركة: شولاميث فايرستون Shulamith Firestone، وكيت ميليت kate Millet، وقد أعربت هؤلاء النِّساء عن ضرورة التَّحولات الجذريَّة في الجنسانيَّة والعائلة الأبويَّة، وقيمة الانفصاليَّة كاستراتيجيَّة بقاء ومقاومة في حياة المرأة وميادينها ومؤسساتها ومنظماتها (29)، فالتَّركيز هنا على النّوع، واستبعاد الفروق الجنسيَّة كمؤشر للتمييز.
حيث يرى أنصار الراديكالية أن البطريركية هي أساس التمييز ضد النساء، والسيطرة عليهن في كافة ميادين الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، وأن البطريركية تخلق نظام تنميط للجنسين من خلال ثقافتين: ثقافة ذكورية، وثقافة نسائية مسيطر عليها، فترى أن الرجل هو المتحكم بهرمية المال، وهذا يفسر اضطهاد الرجل على المرأة، وأن وضع المرأة الحالي ناتج عن سيطرة الرجل على مراكز القوى والسلطة والمال، وهو المسؤول الأول عن اضطهادها، وطالما أن هذا النظام وهذه القيم هي التي تحكم المجتمع، فإن المرأة لن تتمكن من إنجاز أي تغيير هام في مسيرتها نحو المساواة (30).
تؤمن النسوية الراديكالية بأن السلطة الذكورية هي أصل البناء الاجتماعي لفكرة النوع (رجلاً أو امرأة)، وترى أن هذا النظام لا يمكن إصلاحه، ولذلك يجب القضاء عليه لا على المستوى السياسي والقانوني وحسب، ولكن على المستوى الاجتماعي والثقافي أيضًا (31).
إنّ ما يفصح عنه هذا التَّوجه أنّ دونيَّة المرأة واضطهادها كان سببه النّظام الأبوي السائد على مرِّ العصور، وأنّه لا مجال لتحسين أوضاعهن إلاّ بإزالة هذا النّظام، وإحلال مفهوم (فردانيَّة) (32) النِّساء وحق تملك أجسادهن.
فكان من أهم استراتيجيات التيار الراديكالي، تغيير المعادلة الاجتماعية القائمة، واستعادة النساء لأجسامهن وكيانهن، وإعادة الاعتبار إلى ثقافة خاصة بهن إلى حد الانفصال عن الرجال، والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة. واستعاد هذا التيار قول النسوية الوجودية سيمون دو بوفوار (لا تولد المرأة امرأة، لكنها تصبح كذلك) جاعلا منه أبرز شعاراته (33).
في فترة السبعينيات رأى التيار النسوي أن التمييز بين الرجل والمرأة يتبلور بشكل أساسي في العلاقات الجنسية بينهما، ولمحاربة هذا التمييز ينبغي اجتثاث الجذر، وهو العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، وخلق علاقات مثلية يكون الطرفان فيها متساويين (34). تقول شولاميث فايرستون في كتابها جدلية الجنس: إن القضاء على الأدوار المرتبطة بالجنس لن يتحقق إلا بالقضاء على الأدوار الثابتة التي يقوم بها الرجل والمرأة في عملية الإنجاب، ومن هنا فإن منع الحمل، والتعقيم، والإجهاض، ثم التلقيح الصناعي منذ ذلك الحين، كلها وسائل تساعد على تقليل التمييز البيولوجي، ومن ثَم الحد من التمييز بين الجنسين في مجال السلطة (35).
وخلاصة القول هنا: أن النسوية الراديكالية تعتبر حركة فكرية وسياسية واجتماعية متطرفة، تسعى إلى “تغيير بناء العلاقات بين الجنسين وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وتختلف نظرياتها وأهدافها وتحليلاتها تبعا للمنطلقات المعرفية التي تتبناها، وتتسم أفكارها بالتطرف والشذوذ، وتتبنى صراع الجنسين وعداءهما، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدة عن الدين واللغة والتاريخ والثقافة وعلاقات الجنسين”(36).
وفي خاتمة المقالة يتلخص لنا:
أن التيارات النسوية متعددة الأفكار والتيارات، تسعى للتغيير الاجتماعي والثقافي، وتغيير بناء العلاقات بين الجنسين، وصولا إلى المساواة المطلقة كهدف استراتيجي، وتتسم أفكارها بالتطرف والشذوذ، وتتبنى العداء والصراع بين الجنسين، وتهدف إلى تقديم قراءات جديدة للدين واللغة والتاريخ والثقافة.